العناية بطريحي الفراش في شمال غرب سوريا
لا يمكن بطبيعة الحال وضع النظام الصحي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في سوريا موضع مقارنة مع نظرائه في ألمانيا أو السويد و مثيلاتها من الدول المتطورة بل إن مجرد الحديث عن نظام صحي بما يتطلبه هذا المصطلح من توافر هيكلية معقدة وبنى واضحة متمايزة للمؤسسات الصحية هو ضرب من الخيال في ظل الظروف الراهنة في الشمال السوري إلا أننا لو أردنا ان نكون منصفين سنجد أنفسنا مدفوعين للإشادة بالجهود المبذولة لتقديم رعاية صحية جيدة قائمة على تطبيق أحدث التوصيات العالمية خاصة فيما يتعلق بالاستجابة السريعة لتفشي وباء الكورونا في المناطق سالفة الذكر
لا بد من الإشارة هنا إلى أن القطاع الصحي كان من أكثر القطاعات التي تأثرت إيجابياً بالخروج عن سيطرة منظومة السلطة حيث اكتسب هذا القطاع مرونة وديناميكية بعد تحرره من قبضة البيروقراطية والفساد التي كانت تقيده في ظل سيطرة حزب البعث و أدواته عليه
في السطور التالية نحاول تسليط الضوء على تجربة وليدة لمحاولة استنساخ إحدى العناصر الأساسية للبنية الصحية في أوروبا والتي كانت غائبة بالكامل عن الممارسة الصحية في بلادنا أو ربما في الشرق الأوسط بأكمله رغم تزايد الحاجة لها نتيجة ما جرته الحرب القائمة حتى اللحظة من أعداد كبيرة من المصابين وطريحي الفراش المعتمدين بشكل كامل على المساعدة والدعم من الآخرين
تتمثل هذه التجربة في إنشاء فرق من طلاب كلية الطب البشري في جامعة ادلب لتقوم بالعناية وتأمين الحاجات الأساسية للمرضى طريحي الفراش في المنطقة وتزويدهم بالحاجات اليومية الأساسية لهم. كما ذكرنا سابقا تنتمي هذه الممارسة للروتين الصحي في أوروبا بينما تعد مفهوما دخيلا تماما على الثقافة الصحية في بلادنا. إن غياب هذه الممارسة في بلادنا يعود لأسباب متعددة ليس أهمها غياب الإمكانيات المادية وعدم توفر الكوادر المدربة والمهيأة للقيام بهذه المهمة بل تبرز هنا عوامل أخرى تتعلق بالبنية العاطفية والعادات والتقاليد الشرقية التي تلزم العائلة بعدم السماح باحتياج أي فرد من أفرادها إلى مساعدة من أفراد لا ينتمون إليها بل و اعتبار هذا الاحتياج نوعاً من الإهانة و سبباً للشعور بالعار والهوان. قد تؤدي هذه العقلية حتى إلى القبول بحالة مزرية للمريض وتفضيل ذلك على قبول المساعدة والعون لذا يكمن التحدي هنا في تحويل هذه الممارسة إلى خدمة طبيعية تنتمي إلى المجتمع وتتلقى لديه قبولا ورواجاُ يكسر الصورة النمطية التي تربطه بتخلي مؤسسة الأسرة عن واجباتها وتكافلها مع المنتمين لها
يهدف إدخال هذه الثقافة إلى بلادنا إلى تحسين نوعية الحياة للمرضى الذين ينتمون للشريحة الهدف وتقديم رعاية صحية و اجتماعية مقبولة لهم على أسس علمية بعيدة عن العشوائية والارتجال فبينما يعيش المنتمون لهذه الشريحة في بلادنا منتظرين الموت كمخلص من المعاناة المزمنة والنظرات المتعبة المنهكة للأقارب الذين يجدون أنفسهم أمام مهمة شاقة لا يمتلكون القدرة على أدائها يعيش نظراؤهم في أوروبا حياة جيدة يمكن التكيف معها بل و الوصول إلى حالة من الرضا والتصالح مع حياة مقيدة قليلاً إلا أنها تبقي على فسحة للمتعة والرضا وليست موتاً سريرياً ينتظر فقط لحظة الإعلان عنه
نشأت الفكرة لدى مجموعة من الأطباء المغتربين وتم التواصل مع طلاب في كلية الطب البشري في جامعة ادلب للبدء على نطاق محدود و صغير يتناسب حالياُ مع الإمكانيات المادية المتواضعة من جهة و يتناسب من جهة أخرى مع غرابة الفكرة عن الهوية الاجتماعية الصحية في سوريا
ان اختيار طلاب الطب للقيام بهذه المهمة كان يهدف لامتلاك المضطلعين بهذه المهمة لخلفية طبية إضافة لتقديم دعم مادي لهم و مساعدتهم في تأمين تكاليف دراستهم ومصدر دخل متواضع لهم الا ان الاضطلاع بهذه المهمة لا يتطلب بالضرورة معرفة طبية بل يكفي لذلك امتلاك خبرة تمريضية جيدة تؤهل صاحبها للتعامل مع ذوي الأمراض المزمنة والاعاقات الشديدة
كان لتزامن إنشاء هذه المجموعة مع اجتياح وباء فيروس كورونا للعالم وللشمال السوري أيضاً دور سلبي في زيادة المهمة صعوبة من حيث ضرورة زيادة تدابير العقامة و الحذر من المساهمة في نقل الفيروس للمرضى المستفيدين من هذه الخدمة. هذا التحدي الذي أرهق الفرق المتمرسة صاحبة الخبرة فما بالك بفريق حديث العهد يخطو خطواته الأولى على هذا الطريق
يقوم الفريق الحالي متواضع الامكانات بانشاء ملف لكل مريض متلق للخدمة يتضمن تاريخه المرضي و الدوائي و نوع المساعدة التي يتلقاها و يتم مناقشة هذه المعطيات لدراسة امكانية تحسين نوعية الحياة للمرضى وتأخير ظهور الاختلاطات التي يمكن ان تنتج عن الاهمال والتعامل الخاطئ مع حالاتهم ( قدم سكرية، ارتفاع ضغط شرياني، قرحات اضطجاعية)
يستفيد حالياً من هذه الخدمة تسعة مرضى (خمسة رجال واربع نساء( ينتمون إلى شرائح عمرية مختلفة أصغرهم لا يتعدى الثالثة عشرة من العمر وأكبرهم عجوز ثمانينية. تتنوع بالطبع احتياجاتهم بحسب إصاباتهم ومقدار العجز لديهم إلا أنهم يشتركون بالحاجة إلى رعاية منتظمة ومراقبة مستمرة وتوعية
يتم تقديم هذه الرعاية عن طريق ثلاث زيارات يومية يتم فيها تقديم الأدوية وتبديل الضمادات وتقليب المرضى غير القادرين على الحركة إضافة إلى قياس الضغط الشرياني والسكر إن تطلبت الحالة. يتم أيضاً الاهتمام بنظافة المرضى ومظهرهم والحلاقة لهم إن تطلب الأمر. في حال حدوث اختلاطات يتم إجراء استشارات لدى أطباء أخصائيين ونقل المرضى إلى المشافي عند الحاجة
لاحظ فريقنا أيضاً أن معظم الحالات تحتاج إلى دعم نفسي مواز للرعاية الجسدية لما سببه سوء الرعاية الذي يعانون منه إلى تعميق الرض النفسي الذي سببه عجزهم وإعاقتهم لذا تم مراعاة هذا الجانب بتقديم الدعم النفسي قدر الإمكان والذي يمكن في المستقبل إن توفرت الإمكانيات جعله احترافياً يقدمه مختصون بهذا الشأن
بدأ الفريق عمله في شهر آذار هذا العام ولا زالت التجربة في طور التأسيس وتحتاج التقييم بعد مرور مزيد من الوقت لقياس مدى الفارق الذي أحدثته هذه الخدمة في حياة المستفيدين منها ولمحاولة تطويرها وتفادي الأخطاء المرتبطة بحداثة هذه الممارسة وعدم توافر الخبرة الكافية. إلا أن وجود حاجة ماسة إليها أمر لا يحتاج إلى بينة ولا دليل وإن لفت أنظار الجمعيات الخيرية والمنظمات العاملة في الشمال السوري إلى هذا الجانب المهمل تماماً هو أمر ضروري ويستحق تسليط الضوء عليه لأن هذه الشريحة مهمشة تماماً و تستحق حياة أفضل من حياتهم الحالية التي ما هي إلا حكم إعدام يتم تنفيذه ببطء شديد
مصطفى فحام
أخصائي بالطب الباطني , مستشفى بريمرهافن راينكنهايدة ,ألمانيا